استعادت هذه الإعلانات لغة الشعارات المألوفة، وغير المجدية عموماً، بخصوص الفخر الوطني وتسجيل المواقف المشرفة وتهنئة الذات على بطولات متخيلة رداً على أخطار غير مرئية لا دليل على وجودها، وسواها من مفردات قاموس الحماسة الدعائية التي تليق بالأنظمة الثورية والدكتاتورية حيث تُخترع المخاطر والبطولات وتتحول الأوهام إلى حقائق. في سياق التنافس والمزايدة السياسيين المهُيِّمن عراقياً، استغرق الأمر ثلاثة أسابيع تقريباً من يوم تقديم مسودة القانون إلى التصويت عليه بالمصادقة بعد مروره بقراءتين مختلفتين.

كمعظم الأشياء التي تُصنع بسرعة وبضمنها القوانين، هذا القانون مُصمم على نحو سيء ويعكس حساً بالاستعجال وغلبة روح المزايدة السياسية ضمن سعي التيار الصدري تحصين حليفه الكردي، الحزب الديموقراطي الكردستاني، من هجمات الإطار التنسيقي التي تتصدرها ادعاءات مزيفة، ومؤامراتية الطابع، بوجود تحالف إسرائيلي-كردي خفي، بدعم شخصيات سنية عربية، يدفع العراق مستقبلاً نحو التطبيع مع إسرائيل. تصاعدُ هذه الاتهامات والتلميحات المستمرة من بعض قوى الإطار، وخصوصاً الفصائل المسلحة، مدعومةً بمخاوف إيرانية لا تدعمها الأدلة أيضاً، بخصوص هذا التطبيع المُفترض، زادت من صعوبة مهمة التيار الصدري في تشكيل حكومة الأغلبية. تستخدم قوى الإطار مخاوف التطبيع هذه لتحاجج أن وجودها في الحكومة المقبلة ضروري لضمان عدم تحول هذه المخاوف إلى وقائع. جاء هذا القانون كي يسد الباب على حجة الإطار هذه ويخفف المعارضة الإيرانية لحكومة الأغلبية.

لكن حتى في أجواء الاستعجال والاضطرار والتنافس الحادة هذه بين التحالف الثلاثي والإطار التنسيقي بخصوص تشكيل الحكومة، كان من الممكن تمرير قانون معقول يؤدي نفس الغرض الذي يؤديه القانون الحالي السيء لسد الذرائع من دون الأضرار المحتملة في القانون الحالي. فمثلاً ليس صعباً إمرار قانون يمنع الدولةَ العراقية ومؤسساتها وشخصياتها الرسمية من التعامل مع الدولة الإسرائيلية ومؤسساتها وشخصياتها الرسمية، ويشترط عقوبات محددة معقولة ضد الشخصيات الرسمية العراقية التي تخرق هذا المنع القانوني والرسمي. مثل هذه القوانين جائزة في الأنظمة الديموقراطية. لكن القانون الذي صادق عليه البرلمان يتجاوز حدود الدولة ومؤسساتها ومسؤوليها ليتمدد على حياة الناس الشخصية وحقهم بإبداء آرائهم ويضع عقوبات جائرة على سلوكيات شخصية لا يمكن أن تكون إجرامية إلا في دولة بوليسية لا تختلف عن الدولة التي كان يقودها صدام حسين. في قانون تجريم التطبيع تظهر العيوب البنيوية لنظام ما بعد 2003: دولة عاجزة عن إدارة شؤونها بعقلانية وفاقدة للانضباط المؤسساتي والدقة المعرفية ورعاية الصالح العام في صناعة السياسات وتطبيقها.

تتعلق المشاكل الأساسية في القانون بطبيعته الاستبدادية وتقييده للحريات المنصوص عليها دستورياً وفتحه باباً لصراعات سياسية مقبلة واتهامات مفتوحة للخصوم. القانون، الذي ينص على أنه يهدف إلى "حظر وتجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني" و"منع إقامة العلاقات" معه "بأي شكل من الأشكال،" يتجاوز إطاره المؤسساتي المتعلق بالدولة وأجهزتها ومسؤوليها ليشمل كل المواطنين العراقيين ووسائل الإعلام العراقية داخل البلد وخارجه. ينص القانون على إيقاع عقوبات شديدة كالسجن المؤبد لا يشملها العفو تالياً، لكل "من طبَّع أو تَخابر مع الكيان الصهيوني أو روج له أو لأي أفكار أو مبادئ أو أيديولوجيات أو سلوكيات صهيونية أو ماسونية بأية وسيلة كانت علنية أو سرية بما في ذلك المؤتمرات أو التجمعات أو المؤلفات أو المطبوعات أو وسائل التواصل الاجتماعي أو أي وسيلة أخرى."

ما الذي يعنيه بالضبط الترويج للأفكار الصهيونية والماسونية؟ من يستطيع أن يحدد ما هي هذه الأفكار بالضبط؟ تقول الحركة الصهيونية مثلاً في كتاباتها الكثيرة المعروفة في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين أن اليهود اضطُّهدوا في أوروبا وأن المجتمعات الأوروبية لن تقبلهم فيها كمواطنين متساويين حقيقيين. هذه الفكرة حقيقة تاريخية يدعمها الكثير من الباحثين الأكاديميين الأوروبيين الذي لا صلة لهم بالصهيونية. استندت الصهيونية على هذه الحقيقة التاريخية في مطالبتها بوطن قومي لليهود سواء في فلسطين أو بلدان أخرى. فهل قول هذه الفكرة يُعتبر جريمة في العراق في ظل القانون الجديد، يستحق صاحبها السجن؟ أيضاً، تقول الصهيونية أن لليهود جذوراً تاريخية معتبرة في فلسطين وأنهم من سكانها الأصليين الذين أُخرجوا منها عنوةً. هذه حقيقة تاريخية أخرى يتفق عليها المؤرخون بل يذكرها حتى القرآن الكريم، فهل ذكرها في العراق الآن، يقود صاحبها إلى السجن المؤبد؟ وكيف يمكن أن تُعاقب وسائلُ إعلام عراقية بالغلق والتفكيك لمجرد أنها نقلت فكرة على لسان محلل أو باحث؟ هل ستصبح قراءة ومناقشة كتب شمعون بيريز مثلاً عن نفسه وعن ديفيد بن غوريون والشؤون السياسية في المنطقة فعلاً إجرامياً بوصفه ترويجاً للتطبيع يؤدي إلى سجن صاحبه؟ وهل سيكون عرض وجهة النظر الإسرائيلية بخصوص أي قضية في المنطقة شكلاً من الترويج الممنوع قانوناً؟

عندما تمنح الدولة، أي دولة، نفسها الحق في ممارسة الرقابة على أفكار مواطنيها ومحاسبتهم عليها، فإنها تصبح دولة استبدادية. يفتح هذا القانون باباً واسعاً للاستبداد في العراق. هو يخالف بشكل جذري وصريح إثنين من المبادئ الأساسية التي نص عليها الدستور العراقي في مادته الثانية " ب- لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع مبادئ الديمقراطية" و "ج- لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في هذا الدستور." كما أن المادة 38 من الدستور صريحة في تناقضها مع هذا القانون، إذ تنص على أن "الدولة تكفل، بما لا يخل بالنظام العام والآداب، أولاً: حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل" و "ثانياً: حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر".

المشكلة الأخرى التي يقود إليها هذا القانون في جوانبه الاستبدادية هذه هو أنه يفتح باباً جديداً للتقاضي المستمر عبر اتهام أطراف عراقية متنفذة لخصومها بأنهم ارتكبوا جريمة التطبيع! ستكون قوى الاحتجاج التشرينية والمؤيدون لها من إعلاميين وناشطين من أوائل المستهدفين عبر هذا القانون، إذ غالباً ما يتهمهم خصومُهم النافذون بأنهم أدوات في يد قوى صهيونية وماسونية تحركهم لخدمة "أهدافها المغرضة"! في ظل الطبيعة المطاطية والمفتوحة على تفسيرات مختلفة ومتناقضة لمحتوى القانون المتعلق بالترويج للماسونية والصهيونية، سيحسم اختلافات التفسير هذه النفوذُ والقوة، وليس العقل والمنطق، كما هو الحال لسوء الحظ في سلوك الكثير من مؤسسات الدولة العراقية حيث يهيمن التغول على الإنصاف. ستكثر أيضاً الاتهامات لشخصيات كردية وسنية عراقية عامة وخاصة بارتكاب جريمة التطبيع المنصوص عليها في القانون، ما يفتح الباب على المزيد من النزاعات المكوناتية في البلاد، ويدفع المزيدُ من الأكراد والسنة العراقيين إلى الاعتقاد أن الدولة العراقية مُسيَسة ضدهم وأن أجهزتها تستهدفهم بسبب انتماءاتهم العرقية والمذهبية.

إذا بقي على وضعه الحالي، سيوقع هذا القانون المزيد من الظلم بحق عراقيين أبرياء ويقود إلى المزيد من التوتر العِرقي في البلد.